C 2001/INF/9
أكتوبر / تشرين الأول 2001

المؤتمر العام

الدورة الحادية والثلاثون

روما، 2-13/11/2001

محاضرة ماكدوجال التذكارية

محاضرة تكريما لذكرى ماكدوجال يلقيها
باترشيو ايلوين، الرئيس السابق لجمهورية شيلي،
في افتتاح الدورة الحادية والثلاثين لمؤتمر منظمة الأغذية والزراعة

ماذا يمكن أن يقول فرانك ماكدوجال؟

السيد المدير العام،
السادة المندوبون الموقرون،
سادتي وسادتي،

1 - أود أن أتوجه بالشكر للدكتور جاك ضيوف، المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة على دعوته الكريمة لي لإلقاء هذه المحاضرة التقليدية، إحياء لذكرى فرانك ماكدوجال، في الجلسة الافتتاحية للدورة الحادية والثلاثين لمؤتمر المنظمة. وإنه لشرف عظيم لي أن أقبل هذه الدعوة كتعبير عن التقدير للتعاون القائم بين بلدي ومنظمة الأغذية والزراعة.

لقد اشتغل فرانك ماكدوجال في عصبة الأمم المتحدة السابقة في مجال الصحة العامة، وكان أول من لاحظ منذ أكثر من 70 عاما العلاقة القائمة بين صحة المجتمع ومستوى التغذية الذي يتمتع به الأفراد، والتنمية الزراعة والسياسات الاقتصادية. واستجابا لدعوة من الرئيس روزفلت للعمل على أن يتمتع العالم بـ "الحريات الأربع"، من بينها "التحرر من الفاقة" - وهي التي قال عنها الزعيم الأمريكي في عام 1941 - "إن من الممكن تحقيقها في وقتنا وجيلنا"، انطلق ماكدوجال يستكشف إمكانية توفير غذاء كاف لأبناء البشر بأكملهم لكي يتمتعوا بصحة جيدة، ورأى طبقا لحساباته أن هذه العملية تتطلب مضاعفة الإمدادات الغذائية العالمية، وأن هذا يعني أن الدول الكبرى في ذلك الوقت لا ينبغي فقط أن تضمن تمتع سكانها بالتغذية المناسبة، بل ويعني كذلك أن تعمل هذه الدول على توفير مساعدات مالية وتقنية للبلدان الأقل تقدما لمساعداتها على تحقيق التنمية الزراعة وتوفير التغذية الكافية لسكانها.

وقد ألهمت هذه المقترحات مؤتمر الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الذي عقد في هوت سبرينج في مايو/أيار 1943، والذي اتخذ القرار رقم 24 بشأن "تحقيق اقتصاد قائم على الوفرة"، بعد أن أكد على أمور عديدة من بينها أن "السبب الأول للجوع وسوء التغذية هو الفقر"؛ وأن "العمل على تحقيق التوظيف الكامل للموارد البشرية والمادية، استنادا إلى سياسات اجتماعية واقتصادية، هو الشرط الأول لتحقيق زيادة عامة ومتزايدة في الإنتاج والقوة الشرائية"؛ وأن "التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز أمام التجارية الدولية، والتقلبات غير العادية في أسعار صرف العملات، تمثل قيودا على إنتاج المواد الغذائية والسلع الأخرى، وتوزيعها واستهلاكها"، وأوصى المؤتمر بسلسلة من التدابير التي يتعين على الحكومات والسلطات المشاركة فيه أن تعمل على تنفيذها من أجل تعزيز "تصميمها على تحقيق التحرر من الفاقة لجميع أبناء البشر في جميع بقاع الأرض".

وقد أدى هذا المؤتمر الذي عقد في هوت سبرينج إلى إنشاء هيئة مؤقتة تابعة للأمم المتحدة تكون مختصة بالأغذية والزراعة، وقامت هذه الهيئة، بدورها، بوضع مسودة دستور منظمة الأغذية والزراعة، التي عقدت أول مؤتمر لها فيما بين 16 أكتوبر/تشرين الأول و1 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1945. وإنه لمن السليم والمناسب، في بداية الدورة الحادية والثلاثين لمؤتمر المنظمة، أن نتذكر بالامتنان والإعجاب المساهمات الكبيرة التي قدمها فرانك ماكدوجال في سبيل التفكير في إقامة هذه المنظمة وتبرير وجودها ومولدها. وبالإضافة لإحياء ذكرى فرانك ماكدوجال، فمن المناسب أيضا أن نسأل أنفسنا عما كان يمكن أن يفكر فيه فرانك ماكدوجال لو أنه كان يدرك ما بلغته البشرية في مجال الأغذية والزراعة في بداية الألفية الثالثة، أي بعد 56 عاما هي عمر منظمة الأغذية والزراعة حتى الآن.

2 - وللرد على هذا السؤال يتعين علينا أن نعود 5 سنوات إلى الوراء، إلى شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1996 عندما اجتمع رؤساء دول وحكومات جميع دول العالم تقريبا، أو ممثليهم، بدعوة من منظمة الأغذية والزراعة في هذه المدينة وأصدروا بكل قوة "إعلان روما بشأن الأمن الغذائي العالمي" و"خطة العمل الصادرة عن مؤتمر القمة العالمية للأغذية"، وتعهدوا بتبني المقترحات الواردة في الإعلان وخطة العمل، وتوفير كافة أشكال الدعم اللازمة لتنفيذ هذه المقترحات.

ولقد كان أهم ما أكد عليه رؤساء الدول والحكومات وتعهدوا بضمانه الحق في الحصول على الغذاء وهو الذي عرّفه المؤتمر بأنه "حق كل إنسان في الحصول على أغذية سليمة ومغذية، بما يتفق مع الحق في الغذاء الكافي والحق الأساسي لكل إنسان في التحرر من الجوع". ومضى رؤساء الدول والحكومات ليعلنوا "إننا نرى أن عدم حصول أكثر من 800 مليون نسمة، في جميع أنحاء العالم ولاسيما في البلدان النامية، على ما يكفي من غذاء لتلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية أمر لا يحتمل"، وتعهدوا بتكريس إرادتهم السياسية من أجل" استئصال الجوع في جميع البلدان، جاعلة هدفها المباشر خفض عدد المصابين بنقص التغذية إلى نصف مستواه الحالي - أي 400 مليون نسمة - في موعد لا يتجاوز 2015". ووضعوا مقترحاتهم هذه في سبعة التزامات بأهداف عقدوا العزم على العمل من أجل تحقيقها واتخذوا القرارات والتدابير التي تساعد على تحقيق هذا الهدف.

والآن وبعد أن انقضت خمس سنوات من السنوات العشرين التي حددها زعماء العالم لأنفسهم لتحقيق هذه المهمة، يحق لنا نتساءل عما أمكن تحقيقه من تقدم.

فطبقا لنشرة أعدتها منظمة الأغذية والزراعة هذا العام لعرضها على "مؤتمر القمة العالمي للأغذية: بعد خمس سنوات على انعقاده"، وهو المؤتمر الذي كان من المقرر عقده في هذه الفترة، ثم تقرر تأجيله، تشير المعلومات التي جمعتها المنظمة وقامت بتحليلها إلى أن متوسط الانخفاض السنوي الذي تحقق في حقبة التسعينيات في عدد من يعانون من سوء التغذية في العالم، يقدر بنحو 8 ملايين، وهو أقل كثيرا من المتوسط السنوي اللازم لتحقيق الهدف المنشود تحقيقه في عام 2015، وهو 20 مليون نسمة في السنة. ولو أننا حافظنا على هذا المعدل لانخفاض من يعانون من الجوع، وهو 8 ملايين نسمة في السنة، فسوف يتطلب الأمر قرنا من الزمان لكي تتخلص البشرية من ويلات الجوع. وهذه الحقيقة البسيطة لابد أن توقظنا وتفتح أعيينا على المحنة المأسوية التي ستعانيها البشرية لو أننا أثبتنا عجزنا عن تصحيح هذا الوضع في المستقبل القريب جدا.

والمفارقة المذهلة التي تنطوي عليها هذه الأوضاع - وهي مفارقة مرفوضة من الناحية الأخلاقية وغير مفهومة من الناحية السياسية - هي أن هذه الأوضاع توجد في بيئة تحققت في إطارها "واحدة من أعظم إنجازات القرن الماضي وهي إنتاج الغذاء الذي لا يكفي فقط لتلبية احتياجات سكان العالم الذين تضاعف عددهم من نحو 3 مليارات في عام 1960، إلى أكثر من 6 مليارات في عام 2000، بل ويضمن أيضا تحسين مستوى التغذية وزيادة السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد يوميا من نحو 250 2 سعر حراري إلى 800 2 سعر حراري في نفس هذه الفترة"، وذلك كما جاء في تقرير لجنة الأمم الغذائي العالمي الذي سيعرض على هذا المؤتمر. ومن المفهوم تماما أن هذا التقرير يتحدث عن موقف "يتفشى فيه الجوع على نطاق واسع رغم وجود إمدادات غذائية كافية على مستوى العالم"، وهو أمر غير مقبول".

3 - وينبغي علينا، ولا نستطيع أن نخفي استياءنا من هذه النتائج فرغم أن بعض البلدان النامية - الأكثر تقدما من غيرها - استطاعت تحقيق انخفاض طفيف في مستويات سوء التغذية، مازالت مستويات سوء التغذية تتدهور بشكل مزعج في البلدان الأقل نموا في أفريقيا، وأمريكا الوسطى، والكاريبي، والشرق الأدنى، وكل هذا يحدث رغم تزايد الإمدادات الغذائية المتوافرة على مستوى العالم، كما يتضح من الزيادات المستمرة في مخزونات السلع الغذائية الأساسية في بلدان العالم المتقدمة وبعض البلدان النامية.

ولذلك لم تعد القضية قضية بحث عن حلول لمشكلة الجوع بل هي قضية زيادة الإنتاج الزراعي في البلدان النامية. وليس هذا بالأمر السهل لأن القضية تشمل قلة فرص الحصول على الدخل وقلة فرص العمل وما يترتب على ذلك من استمرار انتشار الفقر بمستويات عالية. وقد قال العالم الهندي البارز M S Swaminathan، "إن أفضل سبيل لتحقيق الأمن الغذائي هو توفير ملايين من فرص العمل بدلا من توفير الملايين من أطنان المنتجات الغذائية"(1).

وعلى الرغم من انتعاش الآمال في تحقيق تحسن جوهري في الظروف الاقتصادية لأفقر السكان بعد برامج التكيف الاقتصادي التي فرضتها الوكالات متعددة الأطراف المعنية بتقديم التسهيلات الائتمانية الدولية، توضح الأرقام التي نشرها البنك الدولي أن الجهود الخاصة بتخفيض مستوى الفقر لم تحقق تقدما كبيرا بل أنها تعثرت في بعض الأحيان.

فمجموع عدد السكان الذين يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا انخفض فقط من 321 1 مليون في عام 1990 إلى 214 1 مليون في عام 1998، وكان ذلك التحسن يرجع في المقام الأول إلى الأداء الجيد الذي حققته بلدان شرق آسيا والمحيط الهادي، وهي البلدان التي استطاعت خفض عدد السكان الذين يعيشون بهذا المستوى من الدخل بما يقرب من 200 مليون نسمة. أما جميع أقاليم العالم الأخرى، باستثناء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد شهدت ارتفاعا شديدا في عدد من يعانون من الفقر.

وتشير الدراسات التي أجرتها اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاريبي إلى أن عدد السكان الذين يعيشون في فقر ارتفع في أمريكا اللاتينية والكاريبي خلال عقد التسعينات من 196 مليون نسمة إلى 224 مليون نسمة؛ وإلى أن الأوضاع التي تتسم بالفقر المدقع، والتمييز العرقي، والفصل بين السكان والعنف بقيت على ما هي عليه أو ازدادت تفاقما؛ وأن القطاع غير الرسمي هو الذي استطاع تحقيق الجانب الأكبر من فرص العمل؛ وأن الأجور في كثير من القطاعات انخفضت عما كانت عليه منذ عشر سنوات. وهذه الأوضاع تمثل عقبة شديدة الخطورة أمام تحقيق التنمية في بلداننا كما أنها تمثل تهديدا خطيرا للأمن الاجتماعي، فضلا عن كونها فضيحة أخلاقية.

وفي نفس الوقت، ساءت أوضاع توزيع الدخل أو بقيت على ما كانت عليه من إجحاف يبعث على الخزي والعار. إذ يعيش في البلدان الغنية خُمس سكان العالم وهذا الخُمس يتمتع بدخل يفوق الدخل الذي يتمتع به الخمس الأفقر من سكان العالم بمقدار 74 مرة. وفي أمريكا اللاتينية شهدت بوليفيا، وهندوراس، وأوروغواي، تحسنا طفيفا في توزيع الدخل بينما بقى الوضع على ما كان عليه، أو ازداد تفاقما، في بقية البلدان، التي تعد فيها مستويات توزيع الدخل الأسوأ في العالم.

وتكشف هذه الأرقام، كما تكشف المراقبة الدقيقة للاتجاهات العالمية في عقد التسعينات عن تزايد تعرض الغالبية العظمى للسكان للتهميش في ما يتعلق بالمنافع المترتبة على التنمية وتفاقم توزيع الدخل والتركيز المتزايد للقوة الاقتصادية في أيدي حفنة من البلدان والمؤسسات الكبيرة. وقد أدى ذلك إلى زيادة ملحوظة في معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر ومعدلات النزوح إلى المناطق المتقدمة، وهذا ما يمكن أن نشهده في المدن الكبيرة. والذي نحن بصدده الآن هو ما يمكن تسميته بعولمة الفقر.

4 - إننا نعيش في عصر التناقضات الشديدة. فقد شهد عقد التسعينيات تغييرات تكنولوجية بعيدة الأثر في العالم، كان أبرزها اتجاه النشاط الاقتصادي والثقافي والاتصالات نحو العولمة بسرعة مذهلة.

فعلى المستوى الاقتصادي شهد عقد التسعينيات تقدما سريعا في التجارة الدولية وزيادة ملموسة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ولكن الزيادة في حركة رؤوس الأموال كانت أسرع من ذلك بكثير، حيث أشارت التقارير إلى أن أكثر من مليار دولار يتم تداولها كل يوم البورصات والأسواق المالية الدولية.

وزيادة التدفقات التجارية، وازدهار الأوضاع المالية، وارتفاع مستويات الابتكارات التكنولوجية تعد كلها من العوامل التي تجعلنا نتوقع زيادة في سرعة نمو الاقتصاد العالمي، وتوفير مزيد من فرص العمل المنتجة، وانخفاض مستويات الفقر. ويقال لنا أيضا إن الفجوة بين الأغنياء والفقراء، سواء على مستوى الأفراد أو البلدان، لابد أن تضيق. وعلى حد تعبير الخبراء، فمن المفترض حدوث تقارب بين مستويات الدخل والمعيشة.

ومع ذلك تشير القرائن بلا منازع إلى أن العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية قد تدهورت في كثير من أجزاء العالم خلال العقدين الأخيرين. فقد شهدت أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حالة من الركود المالي أو أنها شهدت انتعاشا قصير الأجل حدثت في أعقابه أزمات مالية حادة. ونحن نعلم الآن علم اليقين، أن هذه الأزمات المالية في تفاقم وأن أثارها ستمتد إلى فترات طولية.

وقد أجرى الإقليم الذي انتمي إليه، وهو أمريكا اللاتينية، إصلاحات هيكلية بعيدة الأثر، تم معظمها خلال عقد التسعينيات. واقتدت أمريكا اللاتينية في ذلك بكثير من التوصيات التي وُضعت في واشنطن في إطار ما سمي بتوافق الآراء؛ وفعلت ذلك بكل إخلاص وثقة في المبادئ الاقتصادية التي تقررت. ولقد كانت المسألة، فيما اعتقد، هي الاعتماد الكامل على السوق الحرة في خلق الثروة وتحسين مستويات المعيشة. ومع ذلك كانت معدلات النمو في أمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات أبطأ مما كانت فيما بين 1950 و1980 (حيث كان معدل النمو السنوي أقل من 3 في المائة خلال العقد الماضي مقابل 5.5 في المائة في المتوسط خلال العقود الثلاثة السابقة). وعلاوة على ذلك، نجد أن توزيع الدخل ازداد سوءا عما كان عليه أو بقي يعاني من التفاوت الذي يجعلنا نحس بالخزي العار. وهنا يحق لنا أن نتساءل أين الخطأ؟

أنني أرى أن واحدة من المشاكل الرئيسية تكمن في أن النظام الليبرالي الجديد المعهود يعاني من عدد من المثالب. فهو يطبق بالتساوي على بلدان تتباين فيها مستويات التنمية بدرجة كبيرة. كما أنه يطبق بالتساوي في فترات الانحسار الاقتصادي وفترات الازدهار المالي، ويطبق بالتساوي أيضا مهما تباينت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ويقال لنا إننا قد بلغنا آخر المطاف وأنه لا يوجد إلا طريق واحد لا بديل له لدفع عجلة النمو الاقتصادي. وهذا منظور مغرق في الأيدلوجية، يُؤله الليبرالية الجديدة، وسيادة الأسواق، ويؤدي إلى بعض المشاكل الأخطر في عصرنا: ألا وهي الافتقار إلى المساواة، وزيادة انتشار الفقر، وانتشار زيادة عدم الاستقرار، وانتشار الغموض وعدم اليقين.

صحيح أن الابتكارات التكنولوجية التي لقيت منا كل الترحيب قد جعلت العالم ينكمش وقرّبت فيما بيننا حتى أصبحنا نعيش في "قرية عالمية". ولكننا أيضا نشهد مفارقات اتساع الفجوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، وبين الأغنياء والفقراء داخل هذه البلدان. وكما قلت فيما سبق، فإننا نعاني الآن من "عولمة الفقر".

5 - ولكن ماذا فعل المجتمع الدولي لمواجهة ذلك؟ إن الأوضاع التي تحدثت عنها بإيجاز تقول لنا إن الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة لم تكن كافية.

فقد حملت الاختلالات الاقتصادية الشديدة التي وقعت في العالم النامي في السبعينيات والثمانينات الكثير من البلدان على تنفيذي إجراءات تصحيحية قاسية، بتوجيه من مؤسسات الائتمان والتمويل الدولية متعددة الأطراف. بيد أن هذه الإجراءات ركّزت في معظمها على تحقيق التكيف عن طريق حلول اقتصادية كانت متطرفة في كثير من الأحيان، بدلا من التكيف الذي يأخذ في الاعتبار المتغيرات البشرية والاجتماعية، ويقوم على فهم أفضل بأنه بدون توجهات سياسية سليمة من جانب السلطات الوطنية والدولية ستكون قدرة الأسواق على الاستيعاب محدودة. ولقد حدثت من جراء ذلك أزمات مالية ترتبت عليها أعباء كثيرة، وهذا هو ما أشار إليه بكل دقة ووضوح عدد من فازوا بجائزة نوبل للاقتصاد، وخصوصا Joseph Stiglitz ، الذي درس ما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة بالنسبة للعالم النامي. ولقد كانت التجارة الدولية من المجالات التى شهدت أكبر قدر من العولمة. وكثرت المنتجات التى نستخدمها فى بلداننا المختلفة من السلع والخدمات التى تأتى من أنحاء العالم المختلفة. وهذا ليس بالتطور الجديد؛ فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتجارة الدولية تتزايد بمعدل أسرع من تزايد الناتج المحلى الإجمالي للبلدان.

ففيما بين منتصف الأربعينات وأواخر التسعينات، كان النمو فى التجارة الخارجية يساوى ضعف المعدل السنوى لنمو المنتجات العالمية. وكان مما عزز هذا الاتجاه وجود اتفاقية الجات ثم مفاوضات جولة أوروغواى ثم قيام منظمة التجارة العالمية. ولقد كان التوسع فى التجارة كبيرا بشكل خاص فى السلع المصنعة. وفى عقد التسعينات، أصبحت الزيادة فى التجارة مقارنة بالزيادة فى الإنتاج أكثر وضوحا، حيث بلغ معدل الزيادة فى المنتجات العالمية نسبة 2.5 فى المائة تقابلها زيادة فى التجارة العالمية بنسبة 7 فى المائة. بيد أن هذا الانتعاش التجارى لا ينطبق على معظم ما ننتجه؛ إذ أن خُمس قيمة ما ينتجه العالم هو الذى يعبر الحدود الوطنية.

وعلاوة على ذلك، ففى حالة العالم المتقدم، تجرى نسبة كبيرة جدا من هذه التجارة فيما بين البلدان المتجاورة التى تربطها اتفاقات للتكامل الإقليمي. وهكذا، ففى حالة الاتحاد الأوروبى تتجه نسبة 63 فى المائة من صادراته إلى واحدة من البلدان الأربعة عشر الأخرى الأعضاء فى الاتحاد؛ وتتجه النسبة المتبقية من صادرات الاتحاد الأوروبي، وهي 37 فى المائة، إلى بقية دول العالم أى إلى ما يتجاوز 180 دولة. وفى حالة أمريكا الشمالية (كندا، والولايات المتحدة، والمكسيك) يتجه أكثر من صادراتها إلى العضوين الآخرين فى اتفاقية التجارة الحرة بين دول أمريكا الشمالية. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على أن الجغرافيا مازال لها تأثير كبير، وهى حقيقة تضيع إلى حد كبير بين البلدان النامية. وهذا يدل أيضا على أن العولمة يمكن أن تكون أكثر إنصافا وأكثر توازنا لو أننا استطعنا أو ُنطور أو أن نقوى مؤسساتنا الإقليمية وشبه الإقليمية، التى تعبر عن واقعنا ويمكنها أن تقوم بدور الوسيط فيما بين المؤسسات العالمية والوطنية. فهذا من شأنه أن يقوى صوتنا فى التعبير عن مصالحنا المشروعة ويمكننا من أن نعمل معا من أجل التنمية المتبادلة لبلداننا.

ولقد كان من بين الإجراءات التقليدية لعلاج حالة عدم المساواة على المستوى الدولى التى تعاصرنا منذ بداية الفترة التي أعقبت الحرب المساعدات الإنمائية الرسمية التى تقدمها البلدان الغنية والمؤسسات متعددة الأطراف. بيد أنه على الرغم من الالتزامات المستمرة من جانب هذه البلدان انخفضت المساعدات التى تقدم لأغراض التنمية من 0.33 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى البلدان ذات الدخل المرتفع فى عام 1992 إلى 0.24 فى المائة فى عام 1999، وبذلك تكون قد انخفضت بمقدار الربُع رغم أن هذه الجهات كانت قد وعدت بزيادتها إلى 0.7 فى المائة.

ومع ذلك، أصبحت البلدان الأكثر تقدما تدرك فى الوقت الحاضر أهمية توفير الفرص التجارية بدلا من تقديم الموارد كجزء من التعاون من أجل التنمية، ولكننا مازلنا ننتظر هذه الفرص. فهذه البلدان الأكثر تقدما مازالت توفر قدرا أكبر من الحماية للقطاعين الزراعى والريفى، مما يضر بإمكانيات التجارة فى المنتجات الزراعية التى تنتجها البلدان النامية. وعلى الرغم من أن البلدان الأكثر تقدما تتمتع بمزايا تنافسية حقيقية، فإنها تفرض أيضا تعريفات تجارية متزايدة كلما ارتفع مستوى تصنيع السلع الأولية، مما يحول دون انتقال البلدان النامية إلى مراحل أعلى من التنمية.

ولقد حدث جانب من التوسع فى التجارة تحت إدارة منظمة التجارة العالمية (التى حلت محل اتفاقية الجات). وفى سياق السلسلة الأخيرة من المفاوضات، بصفة خاصة، وهو ما سمى بجولة أوروغواى، اتسع نطاق عملية توحيد النظم واللوائح، أى جعل النظم واللوائح المطبقة فى البلدان النامية أقرب ما تكون إلى تلك المطبقة فى البلدان المتقدمة. وللأسف، فإن المسألة لا تعدو كونها تطبيق "لوائح موحدة" على بلدان يوجد بينها تفاوت صارخ من حيث "قدراتها الانتاجية". وبذلك أصبحنا أمام قضية تتمثل فى تطبيق المعاملة المتساوية على أطراف أبعد ما تكون عن التساوى. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى الفرض التعسفى لأيدولوجية الليبرالية الجديدة. وهذا يضع البلدان النامية أمام صعوبات لا قبل لها بها، فكيف يتسنى لها خلق قدرات إنتاجية جديدة، وتنويع صادراتها وزيادة قدرتها على توفير مزيد من فرص العمل المنتجة. وتحقيق التنمية المنصفة يعنى تمتع البلدان النامية بالمزايا النسبية وزيادة قدرتها على المنافسة، بعد أن تكون مستويات الدخل فيها قد ارتفعت كما حدث فى شرق آسيا فيما بين منتصف السبعينات، وعقد التسعينات، بعد تجارب التنمية الناجحة التى شهدتها هذه المنطقة. والأمر الذى كثيرا ما تحققه الليبرالية الجديدة هو الاحتيال من أجل زيادة قدرة البلدان النامية على المنافسة اعتمادا على الأجور المنخفضة التى يقبلها الفقراء.

ولقد تحطمت الآمال التى أثارتها اتفاقيات منظمة التجارة العالمية بالنسبة لسكان الريف. فالاتفاقيات التى تفاوضت بشأنها القوى العالمية الرئيسية، بين جدران أربعة، مكنت البلدان المتقدمة من المحافظة على مستويات الحماية المرتفعة للمنتجات الزراعية (التعريفات الجمركية، والحصص وغير ذلك من القيود المفروضة على الواردات السلعية من البلدان النامية) وكذلك المحافظة على ارتفاع مستويات دعم القطاع الزراعى الداخلى فى البلدان الأعضاء فى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (حيث ارتفع مستوى الدعم بنسبة 8 فى المائة منذ التوقيع على هذه الاتفاقية، ويصل مجموع قيمته فى الوقت الحاضر إلى 363 مليار دولار). فكيف يتسنى لنا أن نواصل تشجيع تحقيق زيادات مستدامة فى الإنتاج الزراعى فى البلدان النامية بينما لا يصاحب ذلك انفتاح فى الأسواق؟ وبدلا من ذلك، فالذى نلاحظه كثيرا هو تفاقم حدة الفقر بالمناطق الريفية لأن زيادة المعروض فى الأسواق المحلية تكون له آثار سلبية على الدخول التى يحققها المزارعون، وخصوصا الفئات الأفقر من المزارعين.

ومن ناحية أخرى، فإن البلدان النامية من جانبها لم تهتم بالدرجة الكافية، فى استراتيجياتها الانمائية، بقضية الأمن الغذائى والسعى نحو تنمية تقوم على زيادة فرص العمل. ولذلك، فعلى الرغم من النوايا الحسنة والالتزامات العالمية التى يتم الاعراب عنها فى مثل هذه الاجتماعات، لم يكن لها حتى الآن، للأسف، تأثير ملموس على تحسين ظروف المعيشة لملايين الجياع والفقراء الذين مازالوا يعيشون فى ربوع العالم.

6 - ماذا ينبغى علينا أن نفعله؟

لقد أوضحت لنا التجارب والخبرات أن الحرية الاقتصادية المطلقة لا تضمن تحقيق العدالة فى العلاقات بين الأطراف غير المتكافئة، لأن القوى فى هذه الحالة سيفرض شروطه على الضعيف. لذلك، فإن ما نحن فى حاجة اليه هو إيجاد طريق لتحقيق الصالح العام - وهو حسب التعريف الموضوع له "مجموع الظروف الاجتماعية التى تسمح للناس، جماعات وأفرادا، بإشباع حاجاتهم بشكل أكمل وبمزيد من السهولة"، وهذا هو على وجه التحديد مبرر وجود الدولة والغرض منها: أى أن تشجع على تحقيق الصالح العام وتعمل على ضمانه بشرط أن يشمل الجميع، أى أن يشمل المجتمع بأكمله وكل فرد من أفراده.

وهذا يعنى التسليم بأن حرية الأسواق ليست بالشيء المقدس - كما تقول المبادئ فى التفكير الليبرالى الجديد- وبأن حرية الأسواق تسمح بوجود جوانب من القصور بالنسبة للصالح العام. فالحرية فى حد ذاتها لا تضمن تحقيق الصالح العام، لأننا إذا أطلقنا حرية المنافسة بين أطراف غير متساويين، فإن الأقوى سوف يفرض شروطه على الأضعف، ولن يكون أمام الأضعف أي خيار غير القبول.

وقد كشف الأداء الاقتصادى، بنموه المتواضع، وعدالته المتردية وعدم استقراره، عن علامات لا تقبل الجدل على أنه قد أصبح من الضرورى من الناحيتين الأخلاقية والسياسية تغيير المسار الحالى. ونحن فى حاجة إلى زيادة جهودنا القومية من أجل إصلاح اقتصادياتنا، وتحديثها بما يؤدى إلى توسيع نطاق التقدم الاجتماعى والاقتصادى وحقوق الإنسان ليشمل جميع أرجاء العالم النامى وجميع قطاعاته. ومع ذلك، يبدو فى نفس الوقت، أن هناك حاجة واضحة إلى إصلاح الإصلاحات التى تطالب بها المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية وتفرضها على الأمم.

والعولمة ليست حالة ولكنها عملية؛ وهى تتطور بفعل العمل البشرى. والسياسة العامة هى جزء من هذا العمل. ومن المفارقات أن تضعف بعض السمات الأساسية لقيام إدارة عالمية تتسم بمزيد من التكامل والتوازن،رغم أننا نعيش فى عصر العولمة. فعلى سبيل المثال، أصيبت الجهود التى تبذلها البلدان الغنية لمساعدة البلدان النامية بالفتور رغم ازدياد الحاجة إلى المساعدة. ولا تخضع تدفقات رأس المال المتداول فى البورصات للمراقبة الدقيقة كما ينبغى، فى ظروف تشهد توسعا شديدا فى رؤوس الأموال الحرة التى تتنقل من سوق إلى أخرى. والأمر اللازم هو مزيد من العمل الفعال القائم على العزم والتصميم، بعيدا عن المصالح القطاعية المكتسبة على المستوى الوطنى والإقليمى والدولى. وينبغى أن يكون الهدف الرئيسى هو تجنب تكرار حدوث الأزمات المالية وتجنب تعرض الأسواق للأزمات التى تنتشر آثارها السيئة انتشار النار فى الهشيم فى جميع أرجاء العالم.

وكما قال ميشيل كامديسوس، رئيس مجلس الإدارة السابق لصندوق النقد الدولى مرارا وتكرارا - وهو شخص لا يمكن أن نصفه بأنه اشتراكى - "إن يد السوق الخفية لابد أيضا أن تشد عليها يد العدالة القوية التى تضمنها الدولة ويد التضامن الاجتماعى". وأعتقد أنه لا بديل لذلك إذا كان لنا أن نوفقّ بين التنمية والمتطلبات الأخلاقية، فإننا فى حاجة إلى أن نلتمس، وأن نجد سبلا فعالة لتحقيق التنمية التى لا ينظر إليها ببساطة على أنها عملية لتحقيق النمو الاقتصادى - أى إنتاج مزيد من السلع وتحقيق مزيد من الثروة يفوق ما يحتاجه المجتمع البشرى ككل - بل كعملية تتسم بمزيد من العمق تهدف إلى تحسين نوعية حياة المجتمع ككل ونوعية حياة كل فرد فيه.

والحرية رمز أصيل لكرامة الانسان، ولكننا لا نعيش فى عزلة أو فى عوالم منفصلة بل نعيش فى مجتمع لا تفصله حدود، ولذلك فإن السبيل الوحيد لضمان الحرية للجميع هو أن ننظم ممارستها لكى تكون حرية الفرد متوافقة مع حرية الجماعة، وباختصار لكى تسود العدالة. فبدون هذه التنظيمات، سيفرض الأقوى قانونه على الأضعف بلا رحمة، وسيسود العنف والتعسف والفوضى.

وفى نفس الوقت، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما يرتبط به من وثائق أيدتها جميع دول العالم وأصبحت وثائق راسخة تمثل ضمانات أساسية للمجتمع البشرى، تستكمل حق الفرد فى الحرية وتضمن له حقوقه الأساسية، مثل الحق فى العمل بمقابل عادل ومجزى، والحق فى مستوى معيشة يوفر للفرد وأسرته مستوى مناسب من الصحة والرفاهية، بما فى ذلك حقه فى الغذاء والملبس وتلبية الاحتياجات البشرية الأساسية الأخرى، ومنها الصحة والتعليم.

وعلى حد قول البابا يوحنا بولس الثانى فى خطاب له "إن التنمية التى لا تحترم ولا تعزز حقوق الإنسان - الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما فى ذلك حقوق الأمم والشعوب - ليست لها جدوى حقيقية للإنسان".

وإذا كان مفهوم حقوق الإنسان - الذى هو جوهر كرامة الأفراد - قد أصبح الآن حجر الزاوية الذى يمكن أن يقوم عليه الوئام بين الشعوب والأمم، فإن الشئ الذى يمكننا أن نخلص إليه هو أننا لا نستطيع أن نترك الحياة الاقتصادية للمجتمعات تتطور من حالة إلى أخرى دون الاعتبار والاحترام الذى تستحقه هذه الحقوق باعتبارها حتمية أخلاقية قبلت بها جميع الأمم بصفة رسمية.

والتماس العدالة هو وظيفة من وظائف الدولة وهذا يتطلب من كل دولة، فى نطاق ولايتها، ومن مجموع الدول، على المستوى الدولى، أن تضع أو أن توافق على القواعد الأساسية التى تضمن تحقيق الصالح العام، وأن يكون الصالح العام فوق المصالح الفردية لكل دولة وفوق المصالح الخاصة للأفراد والمجموعات، مهما كانت القوة التى يتمتع بها أى طرف.

وممارسة التضامن هو وظيفة من وظائف المجتمع المدنى. فاقتصاديات السوق التى نعيش فى إطارها فى الوقت الحاضر تجعل الأفراد عبيدا لأمور مادية. وقد أصبح الحصول على السلع الاستهلاكية هو أهم ما يشغل بال الكثيرين، مما أدى إلى تفشى المنافسة الشديدة وتحويل الرفاق إلى متنافسين، وزيادة الحرص على المصلحة الفردية. وقد بدأت الشراكات الاجتماعية فى الظهور، ومع ذلك فإن التاريخ يعلمنا أنه لا بد من تقويتها إذا كان لنا أن نكبح جماح القوى وأن ندافع عن الصالح العام ونعمل على تحقيقه. فقوة الضعفاء تكمن فى تماسكهم ووحدتهم، ولذلك فإن الأداة الطبيعية والفعالة هى أن ينظموا صفوفهم.

السيد المدير العام، السادة المندوبون الموقرون، سيداتى سادتى.

بكل تواضع من شخص يأتى من بلد صغير وبعيد يسمى شيلى، وهو بلد يعد جزءا مما يسمى بالعالم النامى، رأيت أن من واجبى فى هذه المناسبة الجليلة، وتلبية لدعوة كريمة من المدير العام، السيد جاك ضيوف، أن أطرح أمامكم أفكارى بكل أمانة. ورغم أننى لست خبيرا فى الاقتصاد أو فى الزراعة، فإن المنطق البسيط يجعلنى أشعر بالحيرة، فكيف يمكن، فى هذه المرحلة من مراحل تنمية المجتمع الذى أصبح بوسعه أن يسيطر بطريقة مدهشة على قوانين الطبيعة، وبهذه الثروة وهذه الفرص التى تسمح للبشرية بأن تعيش فى يسر من الحال - أقول كيف يمكن فى ظروف كهذه أن يكون بيننا 1.2 مليار نسمة يعيشون فى فقر مدقع من بينهم 800 مليون نسمة اعتادوا معاناة الجوع، وعدة مئات من الملايين الذين لا يجيدون عملا.

وكما هو متوقع، فإن العالم يدرك كل ذلك. وقد سعت منظمة الأمم المتحدة فى السنوات الأخيرة إلى الترويج لسلسلة من الاجتماعات الدولية رفيعة المستوى لمواجهة التحديات التى يفرضها هذا الواقع - وغيره من الأوضاع المقلقة - على البشرية اليوم. ولقد كان من بين هذه الاجتماعات مؤتمر القمة العالمى لرعاية الطفولة فى 1990، وقمة الأرض فى عام 1992 والقمة العالمية للتنمية الاجتماعية فى عام 1995، والمؤتمر العالمى للمرأة فى نفس السنة، ومؤتمر القمة العالمى للأغذية فى عام 1996. وفى جميع هذه المناسبات، التى شاركت فيها تقريبا جميع دول العالم، ممثلة برؤساء الدول أو غيرهم من الشخصيات المرموقة، كان هناك اعتراف بالمشاكل الخطيرة التى تواجه البشرية، كما أنها أسفرت عن التزامات قوية بالعمل على مواجهة هذه المشاكل ووافقت على برامج علاجية فى هذه المجالات، وقد تعهدنا جميعا بأن نضعها موضع التنفيذ.

ومع ذلك فإن الوقت يمر ولا يبدو أى حل فى الأفق. ولم تحدث أى تغييرات ذات بال. فمازال الجوع، والفقر، والتمييز ضد المرأة، والتخلى عن الأطفال، وتلويث الهواء، وتدمير طبقة الأوزون على ما كانت عليه من قبل دون رادع. فلم يكن تنفيذ الالتزامات وبرامج تقديم المساعدات من أجل التنمية الا جزئيا أو أنها بقيت حبرا على ورق.

وإزاء هذا الواقع الأليم يفقد كثير من الناس - خصوصا بين المجموعات الأكثر تأثرا أو بين المجموعات المتعاطفة معها - ثقتهم فى المؤسسات الدولية بل وفى الحكومات الوطنية، ويطالبون بالاحتجاج بل ويصلون إلى حد قبول أو تبرير ردود الفعل العنيفة، بل ان التصرفات الاجرامية الإرهابية التى هزت العالم فى الفترة الأخيرة ولقيت ما تستحق من إدانة شاملة وجدت من يحاول شرح أسبابها الأساسية.

إن التحدي الذى نواجهه هائل وملح. وهذا يستدعى وجود جانب كبير من حسن النية والكرم من جانب كل فرد، ويتطلب من المنظمات الدولية أن تعمل بأكبر قدر من الجدية والكفاءة على دراسة الحلول الواقعية واقتراح هذه الحلول وتنفيذها، كما يتطلب من زعماء الدول إبداء رؤية تتسم بالحنكة السياسية، والاستقلال والقدرة على تبنى القرارات اللازمة لتحقيق الصالح العام. وفى حالة الأغذية والزراعة بصفة خاصة، وهو موضوع هذا المؤتمر، آمل أن يشاركنى الحاضرون فى الاعتبارات التى تعرضت لها وأن يساعدوا على التوصل إلى اتفاقات وتوصيات تكون أكثر جدوى فى التغلب على ويلات الجوع وتحقيق مزيد من التنمية الزراعية على مستوى العالم.

وفى الختام أود أن أعود إلى سؤالى الأصلى: وهو: ماذا كان يمكن أن يكون تفكير فرانك ماكدوجال لو أنه كان على علم بالحالة الراهنة للأغذية والزراعة فى العالم؟

ورغم أننى لست على علم بخبرته الفنية أو باقتناعاته فإننى أتصور أنه كان سيصاب بخيبة أمل كبيرة. ولابد أنه، شأنه شأن الرئيس روزفلت - الذى وجه نصيحته إليه - كان سيتطلع إلى أن تكون البشرية قادرة على التخلص من الجوع وأن يأمل على تحقيق ذلك فى جيله. ولا شك فى أنه سيعانى كثيرا لو أنه علم أننا بعد كل هذا الوقت مازلنا أبعد ما نكون عن هدفه.

ومع ذلك فإن ذكراه والروح التى نتمثلها فيه لابد أن تشجعنا على مواصلة السعى الجاد لتحقيق ما كان يطمح إليه فى أقرب وقت ممكن.

وهذا ما هو تتوقعه البشرية منا، وهذا حقها.

وأشكركم

روما، 2/11/‏2001‏