C 2003/INF/9
تشرين الثاني / نوفمبر 2003




المؤتمر العام



الدورة الثانية والثلاثون

روما، 29/11-10/12/2003

محاضرة ماكدوغال التذكارية الثالثة والعشرون

خطاب رئيسي يلقيه السيد تون دكتور مهاتير بن محمد

رئيس وزراء ماليزيا السابق

أمام الدورة الثانية والثلاثين لمؤتمر منظمة الأغذية والزراعة

محاضرة ماكدوغال التذكارية

روما، ايطاليا يوم السبت 29 نوفمبر/تشرين الثانى 2003

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

 

         أود أولا وقبل كل شئ أن أشكركم سعادة المدير العام لدعوتكم الكريمة لى لإلقاء محاضرة ماكدوغال التذكارية المرموقة خلال الدورة الثانية والثلاثين لمؤتمر منظمة الأغذية والزراعة. إننى أشعر بالشرف العظيم بأن يُطلب إلى شخصية غير زراعية أن تتحدث أمام هذا الجمع الكريم لوكالة من وكالات الأمم المتحدة معنية بالزراعة والأغذية.

 

2-      وأود بموافقتكم الكريمة أن أتقاسم معكم بعض الأفكار التى لدى بشأن الكيفية التى يمكن بها الحد من أعداد السكان غير المحظوظين الذين يعيشون دون سُبل معيشة ملائمة والذين يتضورون جوعاً ويموتون قبل الأوان نتيجة لعدم حصولهم على الغذاء. وقد لا تلقى أفكارى ترحيبا كبيرا من البعض. وقد تبدو هذه الأفكار مثالية للغاية إن لم تكن سخيفة تماما. غير أنه كان هناك فى تاريخ المجتمع البشرى الكثير من الأفكار السخيفة التى أدى متابعتها بإصرار إلى تحويلها إلى أفكار مقبولة للغاية لدرجة أننا نرى الآن الأفكار التى حلت محلها كانت سخيفة وعبثية.

 

3-      وهكذا فقد كانت الحرية والمساواة والإخاء، فى عهود الملكية المطلقة الإقطاعية تعتبر أفكارا سخيفة. وبمرور الوقت بدأت هذه الأفكار توطد أقدامها حتى أصبحت مقبولة بصورة كاملة لدرجة أننا نشعر بالرعب لو كانت مازالت هناك دول سلطوية إقطاعية أخرى. وكما كانت الدول الإقطاعية تحاول بعنف إخماد صوت دعاة المساواة فى مهده، يحاول دعاة المساواة اليوم بصورة عنيفة بنفس المستوى إخماد صوت الاوتوقراطيين. وهكذا توطدت الأفكار المتعلقة بالحرية والمساواة والإخاء.

 

4-      والنقطة التي تستحق الإشارة هنا أن من الضرورى منح الأفكار الجديدة، رغم ما تبدو عليه من سخافة بعض التفكير والمتابعة إذا ما كان الهدف هو تحسين الأفكار القديمة أو الحالية. وعلى ذلك فإنه يتعين على أولئك الذين يعتقدون فى فوائد الأفكار الجديدة الاستمرار والإصرار والكفاح ضد التحيزات إلى أن تصبح فى نهاية الأمر مقبولة أو مستوعبة.

 

5-      إننا نعيش اليوم فى عالم يحظى بثروة ووفرة كبيرة. فلم يحدث إطلاقا من قبل فى تاريخ البشر أن حدثت وفرة فى كل شئ. فهناك ما يكفى لتوفير الغذاء والملبس والمسكن لكل فرد من البلايين الستة الذين يعيشون فى هذا العالم. والمشكلة هنا هى أن الثروة والوفرة ليستا موزعتين بصورة متساوية. فهناك أماكن فى العالم تنعم بوفرة كبيرة من الأغذية لدرجة أن السكان يموتون من الإفراط فى الطعام والسمنة الزائدة حتى بعد التخلص من الكثير فى صورة نفايات. وهناك بعد ذلك بالطبع أماكن لم يحصل فيها السكان على ما يكفى من الغذاء للمحافظة على حياتهم وحيث يموت البعض جوعا وفى أوقات قد تضرب المجاعة بشدة وتمحى مجتمعات محلية بأكملها من الوجود.

 

6-      إننا نعلم جميعا عن هذا الوضع بالطبع. إذاً ما هو الجديد؟ غير أن علينا، قبل أن نقدم بعض الاقتراحات، أن نتذكر الأوضاع التى تشكل الأساس الذى يعتمد عليه أى حل قد يقترح. فأمامنا مستوى الحضارة الذى حققناه. وإننا نتمتع بالثراء وبالتقدم التكنولوجى الذى أصبحنا نستطيع معه حرفيا أن نرى معاناة أولئك الذين يعانون من الموت جوعا، والذباب الذى يستقر، ويلتهم حرفيا، عيونهم وأنوفهم وأفواههم وأجسامهم الهزيلة حتى ونحن نجلس نتناول وجبة العشاء المكونة من خمسة أطباق مع النبيذ والسيجار فى غرف الطعام أو المطاعم الفاخرة. ومع ذلك فإن هذه المناظر التليفزيونية المنتظمة لا تحركنا كما كانت تحركنا من قبل صور بيلسين وأوشنتنر. ولا يشعر ضميرنا بالتأنيب نتيجة لهذا البؤس الذى يحدث فى الوقت الحقيقى أمام أعيننا. لقد أصبحت قلوبنا قاسية أمام معاناة الناس الآخرين. ومع ذلك فإننا نستطيع وبلاييننا وما نملكه من فائض غذائى ضخم أن نمحو هذا العار بصورة كاملة والى الأبد. إن كل ذلك ممكن عمله. غير أنه بدلا من ذلك فإننا نهتم بصورة مفرطة بجمع المزيد من البلايين من خلال اقتحام البلدان الفقيرة حتى يمكننا أن نستغلها بصورة أكمل. إن سنغافورة والدوحة وكانكون كلها اجتماعات تهدف إلى إثراء الأثرياء بالفعل مع مجرد فكرة عابرة بشأن احتمال إرسال نزر يسير للفقراء.  ولم يكن يوجد فى جدول الأعمال أى شئ يهتم بصورة محددة بالتخفيف من فقر الفقراء.

 

7-      عندما تكون هناك فروق كبيرة فى أى مجتمع بين الأغنياء والفقراء، تصبح هناك دائما نزاعات وعدم استقرار. إن صيحة الحرية والمساواة والإخاء لم تصدر عن الأغنياء بل من الفقراء. ويكــون الفقراء في البدايــة من الضعف بحيث لا يستطيعون أن يفعلوا أى شئ لأنفسهم. إلا أنه إن عاجلا أو آجلا تتجه القلة اليائسة إلى اللجوء إلى قدر من الاحتجاج ثم إلى العنف فى نهاية الأمر من أجل الحصول على بعض الإنصاف. إن الفشل فى الاهتمام بهم يؤدى لا محالة إلى تصاعد الاحتجاج ومزيد من العنف.

 

8-      لقد حدثت الثورة الفرنسية والثورة الروسية نتيجة لهذه الفروق الشديدة. ونتيجة لذلك فإن الثروة أصبحت موزعة بصورة أكثر مساواة داخل هذين البلدين وداخل الكثير من البلدان الأخرى نتيجة للدروس المستفادة من هاتين الثورتين. بيد أن الأمر الذي غاب عن الأذهان هو احتمال قيام ثورة عارمة مبعثها الفروق الكبيرة بين البلدان التى تشكل مجتمع الدول فى الوقت الحاضر. وكما كان الارستقراطيون فى عهد الثورة الفرنسية لا يهتمون كثيرا بفقر الجماهير، فإننا نرى اليوم الارستقراطيين بين دول العالم لا يهتمون كثيرا بالدول الفقيرة بل عاقدين العزم، كما حدث فى فرنسا قبل الثورة، على استغلال الفقراء. ومن هنا فإن التركيز اليوم ينصب على منظمة التجارة العالمية وليس على منظمة الأغذية والزراعة. نعم إن هناك حديثا يتردد بأن التجارة الحرة سوف تجلب الثروة للفقراء. ولكن ما هو الشئ الذى سوف تتاجر به الملايين من الذين يعانون من الموت جوعا. هل نستطيع أن نتخيل أن يتحول هؤلاء المحتضرون والذين يعانون من الهزال إلى النشاط فجأة نتيجة لنجاح مؤتمر كانكون.

 

9-      إن العالم يروج اليوم للديمقراطية باعتبارها النظام الوحيد لحسن الإدارة فى جميع بلدان العالم. فحتى إذا قتلنا الناس ودمرنا بلادهم، سوف تطبق الديمقراطية على حكوماتهم.

 

10-    غير أن الأمر المحزن هو أننا لا نفكر فى تطبيق الديمقراطية على إدارة العالم. إن العالم يتجه إلى العولمة بسرعة، حيث يزيل الحدود ويتحول تقريبا إلى كيان واحد، مجتمع عالمى واحد، ومع ذلك لا يتردد أى حديث عن ديمقراطية عالمية تكفل للبلدان المساواة فى الحقوق. إن أفضل شئ فى الديمقراطية هو أن الفقراء يحصلون على قوة تصويت معادلة تقريبا لتلك التى لدى الأغنياء. ونظرا لأن عدد الفقراء يفوق عدد الأغنياء، فإن ذلك يرغم أولئك الذين يودون الحكم على الاهتمام بالفقراء. إن مصير الكثير من البلدان الفقيرة سوف يتحسن بالقطع إذا كانت هناك ديمقراطية دولية.

 

11-    غير أن ذلك ربما لن يتحقق لفترة طويلة للغاية. وفى خلال ذلك سوف يتعرض المزيد من السكان للموت جوعا. إننا لا نستطيع أن ننتظر.

 

12-    غير أنه يوجد لحسن الحظ طريق قصير لا إلى تحقيق الديمقراطية الدولية الكاملة بل للحصول على بعض النفوذ فى بعض المسائل الدولية للبلدان الفقيرة، نفوذ كاف للتغلب على قدر يسير من الظروف البائسة التي تعيشها.

 

13-    إننا نتفاوض فى الوقت الحاضر من أجل تحرير التجارة فى منظمة التجارة العالمية. ويريد الأغنياء من الفقراء أن يفتحوا بلدانهم حتى يمكنهم استغلالهم بصورة كاملة. إن الأغنياء هم الذين يضعون جدول الأعمال. وجدول أعمالهم لخدمة مصالحهم بصورة صريحة. فإذا ووفق على جدول الأعمال فسوف يكسبون مهما كانت النتيجة.

 

14-    في كانكون وضعت العراقيل أمام الأعضاء الفقراء أو الأكثر فقراء فى منظمة التجارة العالمية. (لم يُسمح لأشد البلدان فقراء حتى بالجلوس حول المائدة). وقد ينظر إلى اجتماع كانكون على أنه فاشل من وجهة نظر الأغنياء إلا أنه انتصار من نوع ما بالنسبة للفقراء. فلأول مرة قدم الفقراء جبهة متحدة ورفضوا مناقشة جدول الأعمال المعد.

 

15-    غير أنه لا يتعين علينا أن نرفض فقط. فإن علينا أن نأتى بجدول أعمالنا نحن الذى لا يحقق لنا المنافع فحسب بل وللأغنياء أيضا. ويتعين أن يكون جدول أعمالنا عادلا للجانبين. ولابد من أن يركز جدول أعمالنا على المساواة بدلا من التجارة الحرة، وعلينا أن نصر على التجارة النزيهة، وعلينا أن نصر على أن يسدد أولئك الذين سيستفيدون فى الدولة العالمية المفترضة ديونهم حتى يمكن للفقراء أيضا أن يستخلصوا بعض المنافع.

 

16-    إن الأغنياء ورجال الأعمال يسددون، فى معظم بلدان العالم، ضرائب الدخل والشركات. ونظرا لأن الأغنياء يكسبون ثروتهم من المجتمع، فإن عليهم أن يعيدوا بعضا من هذه الثروة إلى المجتمع. فكلما زاد الاستقرار والمساندة فى المجتمع، زادت الثروة التى سوف يحصل عليها الأغنياء. وعلى ذلك تزيد الضرائب التى يتعين أن يسددها الأغنياء.

 

17-    وبنفس الأسلوب يتعين على الشركات الأكثر استفادة من التجارة والأعمال العالمية فى الدولة العالمية المفترضة، دفع ضرائب على أرباحها للعالم الذى تسوده العولمة من خلال وكالة عالمية بعد سداد وخصم ضرائبهم للبلدان التى يعملون فيها. وإن من المنطقى والصحيح أن يفعلوا ذلك لأن دول العالم وشعوبها ييسرون لهم الأمور لكسب الأموال عبر العالم. فصغار التجار الذين يعملون داخل بلدانهم لا يستفيدون على الإطلاق من الأعمال التجارية الدولية ولو حتى على الأقل بطريقة غير مباشرة. ولذا لا يتعين عليهم دفع ضريبة عالمية.

 

18-    ومن المفيد عند هذه النقطة إلقاء نظرة على الشركات المتعددة الجنسيات. فمن المفترض أن تسهم الاستثمارات المباشرة الأجنبية فى زيادة الثروة الاقتصادية للبلدان التى يستثمرون فيها. وهذا حقيقى إلى حد ما. غير أن معظم أولئك الذين يتحدثون عن الاستثمارات المباشرة الأجنبية لم يجهدوا أنفسهم فى دراسة حقيقة هذه الاستثمارات.

 

19-    لقد بدأت ماليزيا فى دعوة الاستثمارات الأجنبية قبل فترة طويلة من أن يصبح تعبير الاستثمارات المباشرة الأجنبية معروفا، وتعود ستينيات القرن الماضى. فقد كانت أجورنا تمثل نحو 5 فى المائة من تلك السائدة فى بلدان المستثمرين. غير أن ذلك لم يكن كافيا لاكتساب الاستثمارات المباشرة الأجنبية. كان علينا أن نعطى الضرائب إجازة لمدة عشر سنوات. وبعد عشر سنوات لم تكن الشركات الأجنبية قد حققت أى أرباح نتيجة لأسعار التحويل. ولذا لم تدفع أية ضرائب على الشركات للبلد المضيف. وقد قيل لنا أن ذلك يعتبر حافزا أيضا وأن أى محاولة لوقف هذه الممارسة سوف يؤدى إلى هروب الاستثمارات المباشرة الأجنبية وتوقف أى استثمارات جديدة.

 

20-    ومن المفترض أن الاستثمارات المباشرة الأجنبية تشمل تدفقات داخلية لرأس المال. ولكن الحقيقة أن أربعة أخماس رأس المال اقترض من البنوك المحلية. وكان الخُمس الآخر فى شكل خدمات وغير ذلك أى دون نقد. ومن ثم لم تأت أية رؤوس أموال فى الواقع.

 

21-    واليوم تود معظم البلدان النامية اجتذاب الاستثمارات المباشرة الأجنبية وتقدم لها المزيد والمزيد من الحوافز. والآن دخلت بلدان أقل المستويات تكلفة لليد العاملة فى تنافس على الاستثمارات المباشرة الأجنبية. وعلينا أن نكون على مستوى العروض المقدمة من هذه البلدان. والفائزون لا محالة هم المستثمرون الأجانب.

 

22-    وفى نفس الوقت تقوم البلدان الغنية بتقويض البلدان الفقيرة من خلال عرض الأراضى ورأس المال على المستثمرين دون مقابل.

 

23-    والأمر الواضح هو أن الأرباح التى تحققها الشركات المتعددة الجنسيات تأتى من مساهمات البلدان الفقيرة من خلال انخفاض الأجور والإعفاء من الضرائب وتوفير رأس المال ومجموعة من الحوافز الأخرى. فإذا دفعت الشركات ضريبة شركات عالمية صغيرة على أرباحها، فإن هذه الضريبة لن تصل إلى المبلغ الإجمالى لما تحققه من وفورات من خلال انخفاض الأجور والحوافز وغير ذلك التى تقدمها لها البلدان الفقيرة. وسوف تسدد الضريبة أساسا من الأرباح التى تسهم فيها البلدان الفقيرة بصورة مباشرة. ومن المؤكد أن هذه الشركات لن تتذمر من سداد ضريبة عالمية صغيرة بعد جميع الأرباح التى تحصل عليها من الاستفادة من انخفاض التكاليف فى البلدان الفقيرة. ومع ذلك فإن منظمة التجارة العالمية لم تنظر إطلاقا فى وضع هذا البند على جدول أعمالها. وقد حان الوقت لأن تصر البلدان الأكثر فقرا فى منظمة التجارة العالمية على أن تكون ضريبة الشركات العالمية جزءا من شروط فتح أسواقها.

 

24-    ولكن ماذا نريد أن نفعل بهذه الأموال. يمكن تقديم هذه الأموال كهبات أو إقراضها كما كان الحال فى الماضى للبلدان الفقيرة. وعلينا أن نعترف بأن المعونة والقروض لم تفد فى الماضى البلدان الفقيرة أو شعوبها. والواقع أنها أدت إلى إثقال الكثير من البلدان بالديون إلى الأبد. إننا نحتاج إلى نهج مختلف لضمان تحقيق هذه الأموال عائدا جيدا.

 

25-    إننا نعرف أنه عندما يتم بناء طريق أو شبكة للسكك الحديدية، فإن عملية البناء ذاتها سوف تخلق فرصا للعمل والنشاط التجارى. وعندما تستكمل، تظهر إلى الوجود مدن جديدة وتظهر أعمال تجارية جديدة وتتحسن الأسعار بالنسبة للمنتجات المحلية، وتنخفض الأسعار بالنسبة للمنتجات المستوردة وتتحقق مجموعة أخرى من المنافع. إلا أنه نظرا للافتقار إلى الأموال، لا تستطيع البلدان الفقيرة إقامة البنية الأساسية المطلوبة. ونظرا لأنها لا تستطيع البناء فإنها تظل فقيرة وهكذا دواليك.

 

26-    وينطبق هذا القول كذلك على سائر البنى الأساسية، كالمواني والمطارات، والمحطات المائية وشتى محطات توليد الطاقة، والإمدادات الكهربائية وإمدادات المياه، والاتصالات، وغيرها. وتحقق هذه البنى المنافع والنمو في الميدان الاقتصادي. لكن أهم هذه البنى بالنسبة للعديد من البلدان التي تفتقر إلى الأغذية، هي البنى المتعلقة بالإنتاج الزراعي والغذائي.

 

27-    ولقد أتاحت العلوم الحديثة الإمكانات لزراعة المحاصيل في معظم أنحاء العالم. وإنه لمن المؤسف أننا لا نعمل ما عمله قدماء المصريين في وادي النيل، حيث حولوا الصحراء إلى أراضي شديدة الخصوبة، وأنتجوا الأغذية، وبنوا واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ. وقد تحقق نفس الشئ في أحواض أنهار الفرات ودجلة والهندوس واليانغ. وتطورت الحضارات العظمى عندما أمكن استخدام المياه في ري الأراضي وإنتاج الحبوب الغذائية، فضلا عن تربية الماشية.

 

28-    ومع ذلك، فإننا نشهد في أيامنا الراهنة عديدا من الأنهار والبحيرات المهمة التي لا تستغل في ري الأراضي وإنتاج الأغذية. فالمسألة لا تتعلق بمستوى جفاف الأراضي وقحلها مادامت هناك مصادر مائية غير بعيدة عن هذه الأراضي. فنحن نستطيع تمديد أنابيب الغاز والنفط لآلاف الأميال عبر الصحاري وفي أعماق البحار وفي أعالي الجبال وعبر الأنهار العريضة، ومن ثم فإننا نستطيع، بكل تأكيد، القيام بنفس الشئ بالنسبة للمياه.

 

29-    ولقد أنشأت ليبيا نهرها الاصطناعي لري صحاريها. وهناك من أعرب عن استخفافه بهذه الجهود زاعما أن ذلك سوف يتسبب، عاجلا، في نضوب المياه الجوفية. وبدلا من هذا الاستخفاف، ينبغي لنا أن نساعد هذا البلد في الحفاظ على مياهه الجوفية لأمد أطول، من خلال تحسين المعدات والتطبيقات العملية. ومع ذلك، فنحن عندما نستخرج النفط من الآبار فإننا نتسبب أيضا في نضوب مورد طبيعي. ولا يمكن أن تنضب المياه بنفس الطريقة التي ينضب بها النفط، فالمياه تعيد تدوير نفسها. ولعله من الأفضل لنا كثيرا أن ندرس تجربة النهر الاصطناعي العظيم في ليبيا وأن نتعلم من هذه التجربة ونبحث عن الكيفية التي يمكننا فيها تطبيق هذا المشروع في بلدان أخرى، ومن ثم ننبذ الادعاءات المغرضة إزاء القذافي.

 

30-    ولعل أهم درس يمكن استخلاصه من تجربة ليبيا، هو أنه إذا ما توافرت الأموال، فإنه يمكن صنع المستحيل. فالمشكلة هي الأموال، وليس توافر الموارد أو الهندسة أو التكنولوجيا.

 

31-    والآن نعود أدراجنا إلى الضرائب التي سبق أن نوهت إليها بتواضع. فنحن نحتاج إلى الأموال لبناء البنية التحتية المثرية وبخاصة البنية الأساسية الزراعية. وإذا ما ساورتنا الشكوك بأن الأموال سوف تدار على نحو سيئ كما كان الشأن في السابق، فإن علينا أن نستنبط أساليب وآليات جديدة من شأنها ضمان تحقيق الأهداف المرجوة. وأهم شئ ينبغي علينا أن نتذكره هو ضرورة بناء المرافق. وينبغي أن نبرم عقود المقاولة مع أولئك الذين يستطيعون فعلا تنفيذ المشروعات. وإذا لم يكن هؤلاء المقاولون من أبناء البلد، فإن ذلك لا يجب أن يكون مثار شكوى. وأيا كان منفذ المشروع، فإن العمال والمتعاقدين والموردين، على المستوى المحلي، سوف يستفيدون. كذلك، فإن الأوساط التجارية المحلية سوف تستفيد. وسوف تكون هناك، بالتأكيد، تدفقات مالية كبيرة في مرحلة الإنشاء يستفيد منها البلد المعني وسكانه.

 

32-    وبعد الانتهاء من إنشاء البنية الأساسية، ينبغي القيام بتشغيلها وصيانتها اعتمادا على ذوي الخبرة في هذا المجال، سواء المحليين منهم إذا ما توافروا، أو الأجانب إذا اقتضت الضرورة. وإن تغطية تكاليف الإدارة الكفؤة للمرافق يمكن أن تتأتى من الضرائب العالمية المحصلة. وفي الوقت ذاته، يكون البلد المعني قادرا على تشغيل المرفق وسداد تكاليف هذا التشغيل.

 

33-    وتتمثل المحصلة الصافية لبناء المرافق الأساسية وتوفيرها، وبصورة خاصة المرافق الزراعية في البلدان النامية، في تقليص ظاهرة الجوع وإثراء هذه البلدان وشعوبها. وعندما يتحقق إثراء الشعوب، فإن الجميع يكسبون.

 

34-    ولقد شرحت آنفا الطابع الحقيقي للاستثمارات المباشرة الأجنبية. وأردت من ذلك تبرير الاقتراح بشأنها لتسديد ضريبة جامعة عالمية. لكن ربما يجانبني الصواب إذا لم أعترف أن الاستثمارات المباشرة الأجنبية يمكنها، بطريقة ما، إثراء بلد فقير.

 

35-    فإن ماليزيا، كما قلت، لها خبرة مديدة في مجال الاستثمارات المباشرة الأجنبية. ولقد كان هدفنا الرئيسي يتمثل في إيجاد وظائف لأبناء شعبنا. وهنا استطاعت الصناعات الأجنبية أن تقوم بدور ممتاز، الأمر الذي جعلنا نحقق الآن توظفا كاملا، بل وأن نقبل تشغيل عمال أجانب.

 

36-    وفضلا عن ذلك، فإن شعبنا نجح في التخلص من كثير من التأثيرات السلبية الجانبية، فاذدهرت لدينا الإنشاءات والإمدادات والخدمات. وبكلمة موجزة، فإن شعبنا وبلدنا حققا الازدهار بفضل الاستثمارات المباشرة الأجنبية.

 

37-    لكن الفائدة الأهم في كل ذلك، هي حقيقة أن البلدان الغنية واقتصادياتها استفادت، هي الأخرى، بطرق عديدة. فماليزيا المزدهرة أصبحت سوقا رائجة لمنتجات البلدان الغنية. إذ عندما تتواكب زيادة الدخل القابل للتصرف مع النمو الاقتصادي، تزداد، بسرعة، وتيرة الواردات من السلع الأجنبية.

 

38-    وهكذا، فإن البلد الفقير لا يمكنه أن يكون سوقا رائجة. وهذا هو ما تعلمته ماليزيا. ونتيجة لذلك، فقد طبقنا سياسة مؤداها "إثراء الجار" بدلا من سياسة "إفقار الجار". ونحن نعتقد أننا إذا ما استطعنا مساعدة جيراننا ليحققوا الازدهار، فإننا سوف نستفيد من تلك السوق المستجدة. ولذا، فقد بدأنا منذ ما يزيد على 15 عاما بتنفيذ برنامج متواضع أسميناه "برنامج ماليزيا للتعاون الفني" بغية مساعدة  البلدان الأخرى في الاستفادة من تجربتنا الإنمائية. وقد حقق هذا البرنامج ثماره على نحو عظيم من حيث زيادة الصادرات الماليزية.

 

39-    وإذا كان هناك من شئ يبرر الإقتداء بتجربة ماليزيا، فذلك يتمثل في أننا نستطيع القول بأن وجود عالم مزدهر إنما يمثل سوقا رائجة للبلدان الغنية. فالضرائب التي تدفعها هذه البلدان ينبغي لها أن تعتبرها، في واقع الأمر، كاستثمارات من أجل مستقبلها، بل هي استثمار لعالم أكثر استقرارا ولسوق أكثر ثراء. وإن هذه البلدان سوف تحصل، مقابل ذلك، على أكثر مما تدفع.

 

40-    ولست أدري حالة المركز المالي لمنظمة الأغذية والزراعة، لكنني أشك أن لديها الأموال الكافية للقيام بالمهمة الضخمة التي يتعين عليها الاضطلاع بها في ميدان الإنتاج الزراعي والغذائي. وهي لا تستطيع، بالتأكيد، إنشاء البنيات الأساسية المشار إليها، بل إن الأمم المتحدة لا تستطيع تخصيص المزيد لهذا الغرض. ولعل الطريقة الوحيدة تتمثل في إنشاء وكالة لجباية الضرائب، كجزء من منظومة الأمم المتحدة، تكون مهمتها جباية وإدارة الأموال لتحقيق أهداف محددة تتمثل في إنشاء البنيات الأساسية المثرية في البلدان الفقيرة. وبكل تأكيد، فإن من الواجب إعطاء الأولوية، فى إنشاء البنية الأساسية الزراعية، للبلدان الأشد تعرضا للمجاعات.

 

41-    وينبغي للأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، أن يدرجا مسألة هذه الضريبة في جداول أعمالهما. ففرض الضريبة على الأغنياء لمصلحة الفقراء أمر مبرر أخلاقيا. بل إن هذه الضريبة تثري الأغنياء أيضا. ولذا فهي ضريبة عادلة ومنصفة.

 

42-    شكرا السيد المدير لأنكم أتحتم لي الفرصة للتحدث عن موضوع سبق لي أن طرحته في مدينة هاينان في الصين، أمام حشد من رجال الأعمال والموظفين ورجال الفكر. وكانت الاستجابة صمتا مطبقا.